.
رحلة استعادة الجسر المفقود بين الأهل والأبناء**
في كل بيت تتكرّر الجملة نفسها:
“ابني لا يسمعني… وأنا لا أفهمه.”
ورغم بساطة الكلمات، إلا أنها تُشير إلى واحدة من أعقَد المشكلات النفسية والأسرية وأكثرها انتشارًا: انقطاع التواصل.
إن العلاقة بين الوالدين والأبناء لا تنهار فجأة، ولا تنكسر في لحظة واحدة؛ بل تهتزّ كلما ضاعت كلمة، وارتفعت نبرة، وتجاهل طرفٌ مشاعر الآخر. ومع مرور الوقت، يتحوّل البيت إلى مكان يتحدّث فيه الجميع… لكن لا أحد يصغي حقًا.
أولًا: لماذا لا يسمع الأبناء؟
قد يبدو الطفل أو المراهق غير مُبالٍ، لكن خلف هذا السلوك أسباب عميقة:
1. الأسلوب الدفاعي
عندما يشعر الابن بأن أي حوار سينتهي باللوم، أو النقد، أو المقارنة، يتجه عقله مباشرة إلى ميكانيزم الدفاع، فيتوقف عن الاستماع، حتى وإن بدا صامتًا.
2. الرسائل المتناقضة
الطفل يسمع شيئًا ويرى شيئًا آخر…
نقول له: “اهدأ”، بينما نصرخ.
نطلب منه “الاحترام”، بينما نُهينه.
هذه الازدواجية تقتل الثقة وتُربك الفهم.
3. غياب مساحة التعبير
حين لا يجد الطفل مساحة ليقول “أنا متضايق”، “أنا خائف”، “أنا محتاج مساعدة”، يبدأ في الانسحاب… لا لأنه لا يريد التواصل، بل لأنه لا يجد مكانًا آمنًا ليكون نفسه.
4. المراهقة والتغيّرات الهرمونية
في سن المراهقة، يصبح الصوت الداخلي أعلى من صوت الآخرين. يحتاج المراهق إلى الاعتراف بهويته، لا إلى السيطرة على قراراته.
ثانيًا: لماذا لا يفهم الوالدان أبناءهم؟
الوالدان أيضًا يعانون، ولكنهم لا يُدركون ذلك دائمًا.
1. المقارنة بين أجيال مختلفة
يُقيّم الأبناء بمعايير الماضي:
“إحنا زمان ما كناش نعمل كده.”
لكنهم ينسون أن زمان ليس الآن… والعالم تغيّر جذريًا.
2. الضغط النفسي على الأهل
الأم أو الأب المرهق، المجهد، المُثقل بضغوط الحياة، قد لا يملك الطاقة العاطفية الكافية لسماع تفاصيل يوم ابنهم.
3. تفسير السلوك تفسيرًا خاطئًا
الصمت يُفسَّر على أنه قلة احترام،
والانسحاب يُفسَّر على أنه عناد،
والدموع تُفسَّر على أنها ضعف…
بينما تكون الحقيقة شيئًا مختلفًا تمامًا.
4. الفجوة الرقمية
جيل يفكّر بالورقة والقلم، وجيل يتحدث لغة التكنولوجيا.
هذا الاختلاف يخلق مسافة إضافية تحتاج وعيًا لتقليلها.
ثالثًا: كيف نستعيد لغة مشتركة؟
إعادة بناء التواصل ليست مهمة صعبة، لكنها تحتاج إلى نية صادقة وخطوات واضحة:
1. الاستماع أولًا
اجلس مع ابنك دون هاتف، دون مقاطعة، دون نبرة تحقيق.
استمع… فقط استمع.
فأحيانًا يكون ما يحتاجه الطفل هو أذنًا آمنة، لا حلاً سريعًا.
2. قلّل الأوامر… وزد الأسئلة
بدل: “اعمل كذا”،
قل: “ما رأيك أن نفكر كيف نحل هذا معًا؟”
3. اعترف بمشاعره
الجملة السحرية التي تُغيّر العلاقة:
“أنا فاهم إنك متضايق… وده حقك.”
4. تجنب الكلمات الجارحة
لا تقل: “أنت ما بتنفعش.”
بل: “تصرفك ده محتاج نشتغل عليه.”
5. وقت خاص لكل طفل
حتى لو عشر دقائق يوميًا.
الطفل الذي يشعر أنه مرئي… يسمع.
6. تعديل أسلوب العقاب
العقاب ليس انتقامًا.
العقاب الحقيقي هو تعليم، لا إذلال.
7. مرافقة المراهق… لا السيطرة عليه
المراهق لا يريد قائدًا، بل يريد شريكًا يفهمه.
رابعًا: رسالتك كأم أو أب
قد تشعر بالذنب… أو الحيرة… أو الإرهاق.
وقد تشعر بأنك تفعل كل ما تستطيع دون نتيجة.
لكن الحقيقة أنك لستَ وحدك.
تربية الأبناء ليست “خبرة فطرية”، بل علم ومهارة تُتعلّم.
وبقدر ما يحتاج الطفل إلى من يفهمه…
يحتاج الوالدان أيضًا إلى من يُطمئنهم أنهم على الطريق الصحيح.
ختامًا: الجسر لا يُبنى بالصوت… بل بالدفء
التواصل مع الأبناء ليس معركة يجب أن تربحها،
بل علاقة يجب أن تنمو.
وحين يشعر الابن بأنك تقتربين منه لا لتُحاسبيه، بل لتفهميه…
وأنك لا تريدين أن تكسريه، بل أن تحتويه…
ساعتها فقط يفتح قلبه،
ويسمع…
ويتغيّر…
ويتقرّب.
لأن الأبناء لا يهربون من أهلهم،
هم يهربون من الألم داخل العلاقة.
وحين يختفي الألم… تعود العلاقة.
الوسوم:
الصحه النفسيه
